فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي: وهذا لا يصح، لأن قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعم جميع ما أنزل إليه، ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} لا يفيد العموم بدليل جواز ادخال لفظتي الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة: {ما} للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريرًا وإدخال لفظ البعض عليه نقصًا.
ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ} وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به، وفيه فوائد: أولها: أن كلمة: {إنما} للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى، وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك.
وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك.
وثالثها: أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل، فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته، وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها: أن عبادة الله واجبة، وهو يبطل قول نفاة التكليف، ويبطل القول بالجبر المحض.
وخامسها: قوله: {وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ} وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية، ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبودًا سوى الله تعالى سواء قال: إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية.
وسادسها: قوله: {إِلَيْهِ ادعوا} والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته.
وسابعها: قوله: {وَإِلَيْهِ مَابِ} وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى شبه إنزاله حكمًا عربيًا بما أنزل إلى ما تقدم من الأنبياء، أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا عليك القرآن.
والكناية في قوله: {أنزلناه} تعود إلى ما في قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعني القرآن.
المسألة الثانية:
قوله: {أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا} فيه وجوه: الأول: حكمة عربية مترجمة بلسان العرب.
الثاني: القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف، فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن، فلما كان القرآن سببًا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة.
الثالث: أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكمًا.
واعلم أن قوله: {حُكْمًا عَرَبِيّا} نصب على الحال، والمعنى: أنزلناه حال كونه حكمًا عربيًا.
المسألة الثالثة:
قالت المعتزلة: الآية دالة على حدوث القرآن من وجوه: الأول: أنه تعالى وصفه بكونه منزلًا وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
الثاني: أنه وصفه بكونه عربيًا والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثًا.
الثالث: أن الآية دالة على أنه إنما كان حكمًا عربيًا، لأن الله تعالى جعله كذلك ووصفه بهذه الصفة، وكل ما كان كذلك فهو محدث.
والجواب: أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه والله أعلم.
المسألة الرابعة:
روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائه فتوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد أن حوله الله عنها.
قال ابن عباس: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وقيل: بل الغرض منه حث الرسول عليه السلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، ويتضمن ذلك أيضًا تحذير جميع المكلفين، لأن من هو أرفع منزلة إذا حذر هذا التحذير فهم أحق بذلك وأولى. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} فيها مسألتان:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَوْلُهُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فِي الْأُكُلِ يَعْنِي بِهِ الْمَأْكُولَ لَا الْفِعْلَ.
وَصَفَ اللَّهُ طَعَامَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ وَلَا مَمْنُوعٍ، وَطَعَامُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ وَيُمْنَعُ فَيَمْتَنِعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ نُوحٍ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ثِمَارٍ مَا يُشْبِهُ ثِمَارَ الْجَنَّةِ إلَّا الْمَوْزُ» لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَوْزَ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ رُمَّانُ بَغْدَادَ، شَاهَدْت الْمُحَوَّلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى نَهْرِ عِيسَى وَفِي شَجَرِ الرُّمَّانِ حَبُّ الْعَامَيْنِ يَجْتَمِعُ تَقْطَعُ مِنْهُ مَتَى شِئْت صَيْفًا وَشِتَاءً، وَقَيْظًا وَخَرِيفًا، إلَّا أَنَّ الْحَبَّةَ الَّتِي بَقِيَتْ فِي الشَّجَرَةِ عَامًا لَا تَفْلِقُهَا إلَّا بِالْقَدُومِ مِنْ شِدَّةِ الْقِشْرِ، فَإِذَا انْفَلَقَتْ ظَهَرَ تَحْتَهُ حَبُّ الرُّمَّانِ أَجْمَلَ مَا كَانَ وَأَيْنَعَهُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {مثل الجنة التي وُعِدَ المتقون}
فيه قولان:
أحدهما: يشبه الجنة، قاله علي بن عيسى.
الثاني: نعت الجنة لأنه ليس للجنة مثل، قاله عكرمة.
{تجري من تحتها الأنهار أكُلُها دائم} فيه وجهان:
أحدهما: ثمرها غير منقطع، قاله القاسم بن يحيى.
الثاني: لذتها في الأفواه باقية، قاله إبراهيم التيمي.
ويحتمل ثالثًا: لا تمل من شبع ولا مرباد لمجاعة.
{وظلها} يحتمل وجهين:
أحدهما: دائم البقاء.
الثاني: دائم اللذة.
قوله عز وجل: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك}
فيهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا بما أنزل عليه من القرآن، قاله قتادة وابن زيد.
الثاني: أنهم مؤمنو أهل الكتاب، قاله مجاهد.
الثالث: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فرحوا بما أنزل عليه من تصديق كتبهم، حكاه ابن عيسى.
{ومِن الأحزاب من ينكر بعضه} فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله ابن زيد.
الثاني: أنهم كفار قريش.
وفي إنكارهم بعضه وجهان:
أحدهما: أنهم عرفوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم وأنكروا نبوته.
الثاني: أنهم عرفوا صِدْقه وأنكروا تصديقه. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {مثل الجنة} الآية، قال قوم: {مثل} معناه، صفة، وهذا من قولك: مثلت الشيء، إذا وصفته لأحد وقربت عليه فهم أمره، وليس بضرب مثل لها، وهو كقوله: {وله المثل الأعلى} [الروم: 27] أي الوصف الأعلى. ويظهر أن المعنى الذي يتحصل في النفس مثالًا للجنة هو جري الأنهار وأن أكلها دائم.
وراجعه عند سيبويه فقدر قبل، تقديره: فيما يتلى عليكم أو ينص عليكم مثل الجنة. وراجعه عند الفراء قوله: {تجري} أي صفة الجنة أنها: {تجري من تحتها الأنهار} ونحو هذا موجود في كلام العرب، وتأول عليه قوم: أن: {مثل} مقحم وأن التقدير: {الجنة التي وعد المتقون تجري}.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود: {أمثال الجنة}.
وقد تقدم غيره مرة معنى قوله: {تجري من تحتها الأنهار} وقوله: {أكلها} معناه: ما يؤكل فيها. و: {العقبى} والعاقبة والعاقب: حال تتلو أخرى قبلها. وباقي الآية بين.
وقيل: التقدير في صدر الآية، مثل الجنة جنة تجري- قاله الزجاج- فتكون الآية على هذا ضرب مثل لجنة النعيم في الآخرة.
{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}
اختلف المتأولون فيمن عنى بقوله: {الذين آتيناهم الكتاب} فقال ابن زيد: عنى به من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وشبهه.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى: مدحهم بأنهم لشدة إيمانهم يسرون بجميع ما يرد على النبي عليه السلام من زيادات الشرع.
وقال قتادة: عنى به جميع المؤمنين، و: {الكتاب} هو القرآن، و: {بما أنزل إليك} يراد به، جميع الشرع. وقالت فرقة: المراد ب: {الذين آتيناهم الكتاب} اليهود والنصارى، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق شرائعهم وذكر أوائلهم.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا التأويل بأن همهم به أكثر من فرحهم، ويضعف أيضًا بأن اليهود والنصارى ينكرون بعضه. وقد فرق الله في هذه الآية بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب.
و{الأحزاب} قال مجاهد: هم اليهود والنصارى والمجوس، وقالت فرقة: هم أحزاب الجاهلية من العرب. وأمره الله تعالى أن يطرح اختلافهم ويصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله وترك الإشراك، والدعاء إليه، واعتقاد: {المآب} إليه وهو الرجوع عند البعث يوم القيامة.
وقوله: {وكذلك} المعنى: كما يسرنا هؤلاء للفرح، وهؤلاء لإنكار البعض، كذلك: {أنزلناه حكمًا عربيًا}، ويحتمل المعنى: والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم.
ثم عدد النعمة بقوله: {كذلك جعلناه} أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا.
و{حكمًا} نصب على الحال، و: {الحكم} هو ما تضمنه القرآن من المعاني، وجعله: {عربيًا} لما كانت العبارة عنه بالعربية.
ثم خاطب النبي عليه السلام محذرًا من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة، والخطاب لمحمد عليه السلام، وهو بالمعنى بتناول المؤمنين إلى يوم القيامة.
ووقف ابن كثير وحده على: {واقي} و: {هادي} و: {والي} بالياء. قال أبو علي: والجمهور يقفون بغير ياء، وهو الوجه. وباقي الآية بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {مَثَل الجنة} أي: صفتها أن الأنهار تجري من تحتها، هذا قول الجمهور، وقال ثعلب: خبر المثَل مُضمَر قبله، والمعنى: فيما نصف لكم مَثَل الجنة، وفيما نقصُّه عليكم خبر الجنة: {أُكُلُها دائم} قال الحسن: يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا: {وظلُّها} لأنه لا يزول ولا تنسخه الشمس.
قوله تعالى: {تلك عقبى الذين اتقوا} أي: عاقبة أمرهم المصير إِليها.
قوله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب}
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم مسلمو اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل: هم عبد الله بن سلام وأصحابه.
والثاني: أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله قتادة.
والثالث: مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى، ذكره الماوردي.
والذي أُنزل إِليه: القرآن، فرح به المسلمون وصدَّقوه، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب، لأنه صدَّق ما عندهم.
وقيل: إِن عبد الله بن سلام ومن آمن معه من أهل الكتاب، ساءهم قِلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذِكره في التوراة، فلما نزل ذِكره فرحوا، وكفر المشركون به، فنزلت هذه الآية.
فأما الأحزاب، فهم الكفار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعاداة، وفيهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم اليهود والنصارى، قاله قتادة.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله ابن زيد.
والثالث: بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزّى، قاله مقاتل.
والرابع: كفار قريش، ذكره الماوردي.
وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ذِكر الرحمن والبعثِ ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل.
والثاني: أنهم عرفوا بعثة الرسول في كتبهم وأنكروا نبوَّته.
والثالث: أنهم عرفوا صِدقه، وأنكروا تصديقه، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: {وكذلك أنزلناه} أي: وكما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا عليك القرآن: {حكمًا عربيًا} قال ابن عباس: يريد ما فيه من الفرائض.
وقال أبو عبيدة: دينًا عربيًّا.
قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم} فيه قولان:
أحدهما: في صلاتك إِلى بيت المقدس: {بعد ما جاءك من العِلم} أن قبلتك الكعبة، قاله ابن السائب.
والثاني: في قبول ما دعوك إِليه من مِلَّة آبائك، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {مالك من الله من وليّ} أي: مالك من عذاب الله من قريب ينفعك: {ولا واق} يقيك. اهـ.